فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على الذم، وعائد الموصول قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد عاهدتهم و{مِنْ} للإيذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة هاهنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا اعطاؤه عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وإلى هذا يرجع قولهم: إن {مِنْ} لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذًا منهم.
وقال أبو حيان: انها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لأكلهم، وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف، أي الذين عاهدتهم كائنين منهم، وقيل: هي زائدة وليس بذاك، وقوله سبحانه: {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} عطف على الصلة، وصيغة الاستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال، أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد، وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} في موضع الحال من فاعل ينقضون، أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله تعالى فيه، وقيل: لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم، والآية على ما قال جمع نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فاعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام فنكثوا ومالؤهم عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو الشخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت، ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد. اهـ.

.قال القاسمي:

{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} أي: لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون بما فيه من العار والنار.
تنبيهات:
الأول: قال المهايمي: أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غير أحواله التي كانت أسباب النعم، وقد كان بها إنسانيته، فبتغييرها لحق بالدواب، وبإنكار المنعم صار شرًا منها، والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم؟.
الثاني: دلت الآية على جواز تحقير العصاة، والإستخفاف بهم، حيث سماهم تعالى دواب، وأخبر أنهم شر الدواب.
الثالث: قالوا: نزلت الآية في يهود بني قريظة، رهط كعب بن الأشرف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عاهدهم ألا يحاربوه، ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضًا. ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرابع: الذين بدل من الموصول الأول، أو عطف بيان له، أو نصب له على الذم. وضمن عاهدت معنى الأخذ، حتى عدِّي بمن، أي: أخذت منهم عهدهم.
وقيل: من صلة، وقال أبو حيان: هي للتبعيض، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم، وهي الرؤساء والأشراف.
الخامس: قوله: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}، حال من فاعل ينقضون، أي: يستمرون على النقض، والحال أنهم لا يتقون العار فيه، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم أن يتقي نقض العهد، حتى يسكن الناس إلى قوله، ويثقون بكلامه، فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد، فهو شر من الدواب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {الذين عاهدت منهم} بدل من {الذين كفروا} بدلًا مطابقًا، فالذين عاهدهُم هُم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون.
وتعدية {عاهدت} بـ {مِن} للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزامًا من جانبهم، لأنّه يقال أخذت منه عهدًا، أي التزامًا، فلمّا ذكر فعل المفاعلة، الدالّ على حصول الفِعل من الجانبين، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوًّا، وليست {من} تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّهًا إلى بعض الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، وهم الذين ينقضون عهدهم.
وعن ابن عباس، وقتادة: أنَّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع.
والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرَهم من بعض قبائل المشركين، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم} [التوبة: 12] الآية.
وقد نقض عبد الله بن أُبي ومَن معه عهد النصرة في أحُد، فانخزل بمَن معه وكانوا ثلث الجيش.
وقد ذُكر، في أوّل سورة براءة عَهْد فرق من المشركين.
وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.
والتعبير، في جانب نقضهم العهد، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر، بعد نزول هذه الآية، وأنهم لا ينتهون عنه، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم، ولذلك فُرّع عليه قوله: {فإما تثقفنهم في الحرب} إلخ.
فالتقدير: ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة.
والمراد بـ {كل مرة} كلّ مرة من المرات التي يحقّ فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرّر العهد أم لم يتكرّر، لأنّ العهد الأول يقتضي الوفاء كلّما دعَا داع إليه.
والأظهر أنّ هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر، وقبل وقعة الخندق، فالنقض الحاصل منهم حصل مرّة واحدة، وأخبر عنه بأنّه يتكرّر مرات، وإن كانت نزلت بعد الخندق، بأن امتدّ زمان نزول هذه السورة، فالنقض منهم قد حصل مرّتين، والإخبار عنه بأنّه يتكرّر مرّات هو هو، فلا جدوى في ادّعاء أنَّ الآية نزلت بعد وقعة الخندق.
وجملة: {وهم لا يتقون} إمّا عطف على الصلة، أو على الخبر، أو في محلّ الحال من ضمير {ينقضون}.
وعلى جميع الاحتمالات فهي دالّة على أنّ انتفاء التقوى عنهم صفة متمكّنة منهم، وملكة فيهم، بما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه، كما تقدّم في قوله: {فهم لا يؤمنون}.
ووقوع فعل {يتقون} في حيّز النفي يعُمّ سائر جنس الاتّقاء وهو الجنس المتعارف منه، الذي يتهمّم به أهل المروءات والمتديّنون، فيعمّ اتّقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة، ويعمّ اتّقاء العار، واتّقاء المسبّة واتّقاء سوء السمعة.
فإنّ الخسيس بالعهد، والغدر، من القبائح عند جميع أهل الأحلام، وعند العرب أنفسهم، ولأنّ من عرف بنقض العهد عَدِم مَن يركن إلى عهده وحلفه، فيبقى في عُزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين، فلم يعبأوا بما يجرّه نقض العهد، من الأضرار لهم.
وإذ قد تحقّق منهم نقض العهد فيما مضى، وهو متوقّع منهم فيما يأتي، لا جرم تفرّع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم نَكالًا لغيرهم، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوّه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}
وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الكافرين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينتقل هنا للكلام عن الجماعة التي عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكفوا عنه شرهم، وألا يتعرض لهم الرسول، وهم اليهود، فهل ظلوا على وفائهم بالعهد؟ لا. بل نقضوا العهد.
بنو قريظة- مثلا- عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يعينوا عليه أحدا، ولما جاءت موقعة بدر مدوا الكفار بالسلاح ونقضوا العهد، ثم عادوا وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا ثانيًا، وعندما جاءت غزوة الخندق اتفقوا على أن يدخل جنود قريش من المنطقة التي يسيطرون عليها ليضربوا جيش المسلمين من الخلف في ظهره، فأرسل الله ريحًا بددت شمل الكفار، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56].
وهم قد فعلوا ذلك؛ لأنهم تركوا منهج الله وخافوا من رسول الله فحاولوا أن يخدعوه بنقض المعاهدات. وقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}
إنهم لا يتقون الله- عز وجل- الذي يؤمنون به إلها؛ لأنهم أهل كتاب؛ جاءتهم التوراة، وجاءهم رسول وهو موسى عليه السلام، وهم ليسوا جماعة لم يأتها كتاب بل نزل عليهم كتاب سماوي هو التوراة، ومع ذلك لا يتبعون ما في كتابهم ولا يتقون الله تعالى، فهم أولًا ينقضون العهد، والنقض ضد الإبرام، والإبرام هو أن تقوي الشيء تمامًا كما تبرم الخيط أي تقويه، وعندما تقوي الخيط فأنت تجعله ملفوفًا على بعضه ليصبح متينًا. فالخيط الذي طوله شبران عندما تبرمه يصبح طوله شبرًا واحدًا ويصبح قويا، فإذا فككته أي نقضته أصبح ضعيفًا، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الَّذينَ عاهدَتَّ} يجوزُ فيه وجهان:
أحدها: الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله، أو على النَّعت له، أو على عطف البيان، أو النصبُ على الذَّمِّ، أو الرفع على الابتداء، والخبرُ قوله: {فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم} بمعنى: من تعاهد منهم، أي: من الكفار ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رحمه الله تعالى.
و{مِنْهُمْ} يجوز أن يكون حالًا من عائد الموصول المحذوف، إذ التقدير: الذين عادتهم، أي: كائنين منهم، فمِنْ للتبعيض.
وقيل: هي بمعنى: مع.
وقيل: الكلام محمول على معناه، أي: أخذت منهم العهد.
وقيل: زائدةٌ أي: عاهدتهم.
والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ، والأول أصحُّ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} أي الذين صار نقضُ العهد لهم سجيةً؛ فلم يَذَروا من استفراغ الوسع في جهلهم بقية.
وإن من الكبائر التي لا غفران لها من هذه الطريق أن ينقض العبدُ عهدًا، أو يترك عقدًا التزمه بقلبه مع الله. أولئك الذين سقطوا عن (....) الله، فرفع عنهم ظلَّ العناية والعصمة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشيء عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلباس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس، فقال مؤكدًا لأجل ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من محبة الرفق: {فإما تثقفنهم} أي تصادفنهم وتظفرن بهم {في الحرب} أي التي من شأنها أن يحرب فيها المبطل، ويربح المحق المجمل {فشرد بهم من خلفهم} أي فنكل بهم تنكيلًا يصدع ويفرق عن محاربتك من وراءهم ممن هو على مثل رأيهم في المنافرة لك ولا تتركنهم أصلًا لأن أتباعك أمهر منهم وأحذق، فهم لذلك أثبت وأمكن، فإذا أوقعت بهم ذلك لم يجسر عليك أحد بعده اتعاظًا بهم واعتبارًا بحالهم؛ ومادة شرد بكل ترتيب تدور على النفوذ، فإن كان على قصد وسنن فهو رشد ويلزمه الاجتماع، وإن كان على غير سنن وجامع استقامة فهو شرود، ودرشة، أي لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شرودًا وشردت به تشريدًا، فأما قوله لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شرودًا وشردت به تشريدًا، فأما قوله: {فشرد بهم} فالمراد نكل بهم وسمّع، قال القزاز: شردت الرجل تشريدًا- إذا طردته، وشردت به- إذا سمّعت به وذكرت عيوبه للناس، وقوله تعالى: {فشرد بهم} أي اجعلهم مطردين- انتهى.